البارحة واليوم!

 

حول العلمانية، الحداثة، وما بعد الحداثة

 

الجزء الاول

 

في هذه المقالة اود تسليط الضوء على المفاهيم الثلاثة والعلاقة التأريخية بينهما؛ العلمانية ، الحداثة، وما بعد الحداثة. ان هذا الموضوع يشغلني بسبب التناقض الصارخ بين ما يشهده العالم من تقدم اجتماعي وانساني وتكنولوجي وعلمي؛ كوسائل الاتصال الجمعي، تراكم الثروة بشكل هائل، الابداع والتوسع المعرفي الهائل على كل صعيد، تقدم كبير جدا في مستويات الصحة والرفاه، لم يشهد له العالم مثيلا، من جهة وبين التراجع الثقافي والمعرفي والحقوقي (حقوق البشر) في العديد من المجالات والدول؛ ليس فقط في العراق او الدول العربية او كما يسمونها الاسلامية بل في الدول الاوربية وامريكا نفسها؛ في المانيا وايطاليا والنمسا وبريطانيا واسكندنافيا من صعود اليمين المتطرف، وفي امريكا بانتخاب ترامب وانتشار قيم العنصرية البيضاء الكارهة للمرأة والملونين، من جهة اخرى. ازدهار من جهة ونكوص وانحطاط من جهة اخرى؟ لماذا؟ اين صارت قيم الحداثة والتمدن والمواطنة وحقوق المرأة الكونية؟ اين الحداثة التي سادت قبل مئة سنة وظن البشر انها انتصرت للابد ؟ لم هذا التناقض الحاد بين تقدم من صعيد وتخلف مهول على الصعيد الاخر ؟.

 

لابدأ اولا باعتبار اساسي مفاده ان العلمانية هي جزء من الحداثة. العلمانية هنا بمعناها السياسي اي فصل الدين عن الدولة، مجتمع المواطنة، تعريف البشر في المجتمع كمواطنين لا اتباع اديان او طوائف. العلمانية هي منجز معاصر وحديث نسبيا. لم يكن للعلمانية ان تحدث لولا حركة الحداثة او modernization والتي قادتها الثورة الفرنسية منذ حوالي 200 سنة في كل المجالات؛ السياسية والثقافية والفكرية والعلمية والفنية والمعمارية والادبية وفي الاقتصاد السياسي.

ولكن انظروا: اليوم اصبحت كلمة العلمانية تابو. شئ محرم يهمس به همسا!. اعتى ادعياء التمدن لا بل شيوعيين راديكاليين لا يقبلون باقل من الاطاحة بالرأسمالية حلا للاوضاع الراهنة يهمسون بها همسا او يستنكفون منها خوفا على "شعبيتهم". وحين يتم ذكرها او الدعوة لها يتهم من يدعو لها بانه مارق، خارج عن الاعراف والتقاليد والدين وناكر لجميل"مجتمعنا" و"ثقافتنا" او انه منحرف وملحد ومنحط اخلاقيا. كل هذا ليس يحدث وكأن رجال الدين وعصاباتهم وبجرة قلم يريدون الغاء تأريخ 200 سنة من التطور الانساني باتجاه الحرية. اما المجتمع فصامت ومطأطئ الرأس! ينتظر "المسيح" او "المهدي" او منقذ ما آخر.

خذ اي عمل درامي مصري كتب في العشرينات او الثلاثينات من القرن الماضي (لكي لا اقول ثورة فرنسية وصراعات ديمقراطية في اوربا نفسها قبل ذلك بمئة سنة اخرى) و سيتوضح لك كيف كان المجتمع يعيش بما يتعلق الامر بالحداثة ووضع المرأة وعزل الدين عن المجتمعم. اي فلم مصري يمكن ان يخبرك بمدى التمدن والحداثة التي كانت سائدة ويتم الترويج لها بفخر في كل وسائل الاعلام المتاحة حينها.

 

اليوم في العام 2019  يلف السواد المجتمع وتنهار مكانة اكثر من نصف المجتمع الى الحضيض؛ اقصد مكانة المرأة. المرأة اختفت من الشارع وصار الرعب والخوف والقلق يسود الاجواء. لم يحدث كل هذا؟ كل التطور الهائل في كل مكان، لم تتدهور اوضاع المنطقة ويسود التخلف وتنهار الحداثة وتحل محلها لحى رجال الدين وعبائاتهم ونظراتهم الوجدانية المزيفة وعصاباتهم وبلطجيتهم؟ لم ينهار الفكر العقلاني ويحل محله الفكر الخرافي الغيبي؟ لم انهار وضع المرأة؟ لم انهارت المواطنة؟ لم انهار المجتمع المدني متحولا الى مجتمع طوائف وقبائل متصارعة؟ لم تصبح صورة المرأة التي كانت مثال للجمال والانوثة حرام وعيب ولم صار الزواج من اربعة خبر عادي لا يلفت النظر وضرب المرأة لا بل قتلها ورجمها بالحجارة شئ لا يثير سوى الاحساس بالقرف لا اكثر. هل اذكر زواج الطفلات؟ هل اذكر كيف يتم الاعتداء على الطفلات واغتصابهن في حين ان هذه جريمة فظيعة في العالم المتمدن؟ كيف هذا؟

 

مقالتي تهدف الى تقديم جواب على هذه الظاهرة وخلق بارادايم علمي لفهم الاحداث والظواهر الاجتماعية بدلا من هراء رجال الدين والقصص الدينية. ان الجواب متعلق بفهم حركة الطبقة البرجوازية واستخدامها الاقتصاد السياسي لادامة نظامها الذي جلبته الى الوجود رسميا في صبيحة 17 تموز من عام 1889.

 

الطبقة الحاكمة الحديثة، الطبقة الرأسمالية او البرجوازية اليوم والتي سميت بطبقة ال 1% استخدمت الحداثة ومنها العلمانية والعقلانية والعلم قبل قرابة المئة عام لكي تحول الدول والمجتمعات الى اسواق لبضائعها. انا لا اتحدث عن الغرب فقط. فالطبقة البرجوازية التي بدأت بانتاج البضائع (وانتاج البضائع هو العمود الفقري للنظام المعاصر - الرأسمالية) وبدأت بالمنافسة مع بعضها البعض من اجل مراكمة رأس المال بكل وسيلة ممكن وخاصة التوسع، احتاجت جدا الى اسواق للتصريف. التنافس بين القوى البرجوازية العالمية ادى بتلك القوى (كلاسيكيا بريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا ثم اليابان ومؤخرا فقط امريكا) ادى الى "استعمار" الدول الاخرى خارج اوربا من اجل تحويل البشر فيها الى زبائن ومجتمعاتها الى اسواق مفتوحة واراضيها الى مورد دائم لوقودها ومعادنها. تم خلق برجوازيات وطنية على نسق البرجوازية الغربية حيث تبنت تلك البرجوازيات الوطنية الحداثة وجعلت من الغرب نموذجا للنمو الاقتصادي والاجتماعي (الغربنة او Westernization). هذه الغربنة او الاتجاه نحو تقليد النموذج الغربي جلب معه قيم المساواة للثورة الفرنسية والعقلانية والعلم والتقنية والتمدن وقيم المجتمع المدني والمواطنة. هذه المفاهيم كلها مفاهيم البرجوازية الغربية (بعد ان فتحت افاقها الطبقة البرجوازية الفرنسية الثورية قبيل قرابة 200 سنة). وقد تم تعميم هذا النموذج التحديثي على كل الدول وتأثرت به كل البرجوازيات في العالم سواء منها الاوربي او الياباني او الصيني او العربي والايراني والتركي وتقريبا كل دول العالم تبنت الحداثة والموديل الغربي في التطور (بما في ذلك الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي الخصم اللدود في الغرب طوال القرن العشرين).

 

اذن الطبقة البرجوازية العربية تبنت هي الاخرى النموذج الغربي الحداثي والعقلاني الذي يعتمد العلم والتكنلوجيا والرفاه والمساواة الاجتماعية وبطبيعة الحال "المواطنة". ذلك الانتقال الى مجتمع برجوازي حديث حتم على البرجوازيات العربية ان تشتبك مع الاسواق العالمية وتصبح شريك عالمي بسهم في مراكمة الرساميل وكانت الخطة هي تحويل البلدان العربية الى اسواق واسعة للاستهلاك البضائعي ولكن ايضا لتدريب الكوادر وما يسمى "بالتنمية البشرية" ومنها ايضا انتهاج الاسلوب العلمي في الانتاج وتبني كل التقنيات الحديثة واشراك المرأة في عملية الانتاج. ان اشراك المرأة بعملية الانتاج قد تطلب وتزامن مع دعوات لتحرير المرأة ومساواتها وحريتها في الملبس والعلاقات وايضا تم رمي القوانين والتشريعات السابقة المستندة الى الاديان في سلة المهملات لانها تقف بتعارض كامل مع التوجهات البرجوازية النامية في المنطقة في التصنيع وبناء المجتمع المواطني المرفه والسعيد.

 

ان عملية التحديث تعني فيما تعنيه تحطيم الحواجز والعوائق الثقافية والمعرفية والاجتماعية والتأريخية والدينية من اجل فسح المجال لقيم جديدة بالحلول محلها. من هنا فقط يمكن ان نفهم مسألة التحرر والحداثة؛ تحرر المرأة مثلا في فترة الثلاثينيات والاربعينيات والخمسينيات والستينات من القرن الماضي. ان تحرير المرأة كانت مهمة طبقة برجوازية ثورية وتحررية عربية نشأت بالتعاون مع الغرب سواء اتفق معه سياسيا او تنافر معه. ان اغلب البرجوازيات الوطنية العربية قد تنافرت مع الغرب واعتبرتها عدوا ولكن في الواقع ان نموذجها الرأسمالي لم يكن باكثر من نسخة غربية حداثية.

ومن الطبيعي ان الدخول الى مجتمع مغلق وتحويله الى سوق مفتوحة بهذه الدرجة او تلك كان بحاجة الى تهيئة البنى التحتية Infrastructure سواء كانت طرقات حديثة اسفلتية او معامل انتاجية ومخازن ومدارس للتعليم المهني والتقني والعلمي وبالطبع الى تدريب كوادر تستيطع ادارة هذه المؤسسات ونقل المجتمع من مجتمع قبلي عشائري وديني الى مجتمع رأسمالي حديث.

 

ان عملية التحديث او الغربنة او تحويل التطور الغربي الى نموذج لم يكن بمشيئة الطبقة البرجوازية المحلية سواء في العراق او المغرب او سوريا او مصر او اليمن بل كانت بالاساس ضرورة ملحة للرأسمال العالمي من اجل التشابك والتوسع. لذا نرى ان البرجوازية الامريكية والبريطانية والفرنسية والالمانية والايطالية في بدايات القرن العشرين كانت تدعو وتطلق دعوات التحديث والحداثة وتبني قيم المساواة بين الجنسين واعتبار النموذج الغربي القائم على المجتمع المواطني هو النموذج الذي يجب ان يسوق الى جميع الدول (بعض التيارات البرجوازية القومية والاسلامية قد تبنت الحداثة كليا ولكن من مفهوم معاداة الاستعمار والامبريالية ولكن في محصلة الامر فان النتيجة واحدة وهو انتهاج نفس النموذج الغربي في التصنيع والتحديث وتحويل المجتمع رأسماليا وخلق البنى التحتية الضرورية لاتمام عملية التحويل هذه).

 

ومن هنا فان الدعوة الى تحويل المجتمع العربية او الاسلامية الى دول مواطنة لم تكن غريبة بل كانت هي السياسة الغربية الرسمية ازاء الدول الداخلة حديثا في كنف الرأسمالية. وبقدر تعلق الامر بحقوق المرأة فان الغرب ساند ايضا وبقوة منح المرأة حقوقها الكاملة غير المنقوصة ك "مواطن" وحصتها المتساوية في التعليم وبدأت حملة ممنهجة لاقتلاع الدين من الحياة العامة وتحويل رجال الدين الى موظفين لدى السلطة يتحدثون بنفس النغمة التي تريد السلطة لهم ان يتحدثوا بها – اي نغمة الحداثة والمجتمع المواطني والمرفه الخ).

جزء من عملية اعتماد النموذج الغربي في الحياة العربية ساهم بها الفن المصري. فمصر كانت جسرا من جسور التواصل الثقافي مع اوربا والحركات الحداثية الاوربية والامريكية وهي بوابة الحداثة الى المنطقة العربية مع لبنان الذي لعب دورا كبيرا في الترجمة وايصال المؤلفات الغربية الحديثة الى المجتمعات العربية. كل هذا التحويل قد جرى بوعي وارادة الطبقة الحاكمة – اي الطبقة البرجوازية الصاعدة والواعدة.

 

ان الفن المصري خلال فترة العشرينات من القرن العشرين قد نفض عنه نفسه غبار القرن 19 وتأثر جدا بالموسيقى الكلاسيكية الاوربية ومن رحم هذا التحول الكبير خرج عباقرة موسيقيين من مصر كسيد درويش ولاحقا محمد عبد الوهاب والذان كان متأثرين بدرجة كبيرة بالموسيقى الكلاسيكية الايطالية والاوربية عموما.

 

 وفي العراق قفز الفن التشكيلي العراقي قفزات كبيرة لاسباب كثيرة ولكن في كل تلك المحاولات فقط وضح التأثر بالفن الاوربي مع محاولات جادة ومثيرة في "اقلمة" هذا الفن مع الواقع العراقي وبدأ الفنانون التشكيليون في تصوير الحياة العراقية وتصوير المرأة بل وحتى في رسم او نحت جسد المرأة بشكل لم يسبق له مثيل في تأريخ العراق حيث كان الدين يحرم التصوير بل ويعاقب بالقتل من يجروأ على تصوير او نحت جسد امرأة عارية.

 

ان منحوتة مشهورة كمنحوتة الفنان جواد سليم (نصب التحرير) هي بمعنى من المعاني نموذج مثالي لعملية التحديث "المؤقلم" مع الواقع العراقي. هذا النصب المشهور متأثر بالفن الغربي بشكل كبير جدا من خلال ترويجه لقيم الانعتاق والسعي لمجتمع مواطنة يناضل فيه المعلم والطالب والعامل والمثقف ويكسر فيه الجندي السجن الكبير وايضا يطلق العنان للمرأة لتسعى لتكون حرة ومتساوية وهو يصور شعرها السابح في الهواء تعبيرا عن تلك الحرية المنشودة. ان جواد سليم قد صاغ فكرة التحرر الوطني هذه (اي تشكيل برجوازية وطنية متحررة من الهيمنة السياسية للمستعمر البريطاني) من الفكر الغربي نفسه، في حين ان جداريته كانت تعبيرا رائع عن تأثره بالفن العراقي القديم ما قبل الاسلامي (الاحزمة الروائية الزخرفية في بابل واور وغيرها).

 

ان العلمانية التي تبنتها البرجوازية الغربية والتي نقلتها بعدة وسائل الى الطبقات المتنفذة في العالم العربي والمنطقة عموما وخاصة "حكومات التحرر الوطني" كانت هي العلامة الفارقة لتلك المرحلة. ان العلمانية بهذا المعنى هي جزء من عملية التحديث او الحداثة. اي ان فصل الدين عن الدولة كان احد اهم دعامات تحويل المجتمع تحويلا حداثيا. النقطة التي اود التأكيد عليها ان هذه العملية لم تتم لاعتبارات ثقافية او وجدانية او قومية كما ادعت البرجوازية العربية. ان المسألة كانت لاسباب موضوعية تتعلق بتحويل تلك المجتمعات الى اسواق لتصريف البضاعة العالمية وجر تلك المجتمعات لتكون جزءا لا يتجزأ من السوق العالمي.

ان العلمانية لم تكن فقط دعوى او نصائح بل كانت تفرض فرضا من قبل البرجوازية الحاكمة لكي يتم تسريع عملية التحويل هذه. ان تبعية المرأة للرجل واعتبارها كائن بلا شخصية وخاضع للرجولية كانت مناقضة كليا لاهداف البرجوازية في تحويل المجتمع تحويلا غربيا حدثيا لربطه ببقية العالم. هذه الدعوى لم تكن اخلاقية وان فهم الموضوع على اساس "مقاصد الامبريالية" هو برأيي فهم ايديولوجي لا يسبر عميقا الحركة العامة للبرجوازية في تلك المرحلة ونزوعها نحو علمنة المجتمعات التي استعمرتها بالحديد والنار سواء في اسيا او افريقيا او امريكا الجنوبية او استراليا ونيوزلندا او اليابان نفسه التي كانت مجتمعا شديد الانغلاق والرجولية والخرافية.

 

ان تمتع المرأة العراقية ببعض المكاسب في فترة العشرينات والثلاثينات وما تبعها من القرن العشرين من حقوق جزئية ومن حرية في الملبس وظهورها بارادة مستقلة وحبها الكبير للتعليم وسفورها ومشاركتها في الالعاب الرياضية كان نتيجة مباشرة لتأثرها بالنموذج الاوربي العلماني.

في حينها بالطبع لم يكن مفهوم "ان حقوق المرأة هي حقوق عالمية" مطروحا كما اليوم لان ذلك كان واقعا تنزع اليه ملايين النساء وهن يرغبن في العيش تماما كما تعيش المرأة الاوربية في لندن او استوكهولم او روما. كانت المرأة تتطلع بشغف وولع الى هذا النموذج وجمال هذا النموذج ومثاليته ولم تكن بحاجة الى تبني شعارات تطرح لتناقض حركة جاءت بالضد من حرية المرأة ومساواتها وانسانيتها بعد مرور اكثر من مئة سنة.

————————

في الجزء الثاني من هذه المقالة ساتناول كيف تم قبر الحداثة من قبل نفس قوى البرجوازية التي كانت ثورية ومعادية للدين فاصبحت حليفة الدين.