لقاء مع عصام شكــري

لم ان الدولة العلمانية ليست قومية ؟

 

 

نحو الأشتراكية: شعار دولة علمانية لا قومية ولا دينية  شعار فيها فصل بينها وبين الدين والقومية ، الا تتصور القوميين لهم نفس علماني؟  هل هذا الشعار يعكس انهاء دور الأسلام السياسي و القوميين في العراق او تهدف الا انهاء غطرستهم و ظلمهم للجماهير المليونية في العراق؟

 

عصام شكري:

 

اود ان ابدأ بالتأريخ. العلمانية كمفهوم حديث ظهر في اوربا اواخر القرن 18 كان بالاساس نافيا للدين (الدولة اللا دينية) بمعنى نفي تدخل الكنيسة في اجهزة الدولة التي كان يرأسها ملك او امبراطور. حيث كان الاكليروس الكهني مسيطر كليا على الدولة وهو من يعين النبلاء ويعزل من يريد او يعين من يخدم مصالحهم ومصالح اللوردات (مالكي الاراضي) وينهبون الاراضي بمساعدة جيوش الملوك والاباطرة ويفرضون اقسى شروط الاستغلال والتجويع على الاقنان وعبيد الارض.

 

ونتيجة تطور اشكال الصراع السياسي مع تطور الرأسمالية تحولت الدولة الى الشكل القومي ثم الفاشي تحت سلطة انظمة ادعت في البداية انها انظمة تحررية وطنية (اي متحررة من ربقة الاستعمار.

 

 هذه الدول التي انتهجت النهج القومي سرعان ما اصبحت دول فاشية في منتهى القسوة والدموية لسبب بسيط هو تشديد قبضة رأس المال على العمال من اجل مراكمة الارباح  (وهو شرط لا مفر منها للنمو الرأسمالي) وذلك يتطلب الاخضاع التام وغير المشروط للطبقة العاملة وتحويل انتاجها بيد رأسمالية الدولة.

 

ان البربرية المعاصرة والتي تحجم ظهور التيار الانساني للعامل – التيار المواطني اللا ديني واللا قومي تتجسد اليوم في ميلين سياسيين هما الحركة القومية والاسلام السياسي.

 

ان الاستعراضات العسكرية التي كانت سائدة في العراق ايام البعث من فدائيي صدام الى زج الاطفال في الحروب وربط الخرق الخضراء على جبهاتهم او تعليمهم القسوة العسكرية في منظمات شبه عسكرية كالطلائع والفتوة وتجنيد الاطفال من قبل الاسلام السياسي اليوم وزرع الوحشية وكراهية الاخرين في عملية عسيل دماغ تجري في الجوامع والحسينينات والفضائيات  كلها جزء من محاولة البرجوازية  السيطرة على الجماهير وخنقها فيما يسمى "مقدساتها". ان هذه المقدسات بنظر الميل القومي هي العشيرة من جهة او الله والدين والطائفة والمرسلين وبقية القائمة، من جهة اخرى.

 

ان هذان الميلان لا انسانيين. انهما ميلين وحشيين. نحن نريد الا تكون الدولة القادمة دينية او قومية. نريدها ان تكون دولة مدنية بمعنى انها لا تعرف نفسها كدولة عربية او كردية او فارسية...ولا نريدها ان تعرف نفسها كدولة دينية اسلامية. نريدها دولة مواطنة. نريدها دولة لا يشعر فيها اي انسان بانه غير ممثل ولا ينتمي لها.

 

ان ملاحظة ان القوميين العرب مثلا او القوميين الكرد هم اكثر علمانية من الاسلام السياسي بنظري هو دعاية رخيصة روجت لها اوساط الاسلام السياسي ضد التحرريين والعلمانيين لتسقيطهم تمهيدا لتصفيتهم (بمجرد اتهامهم بانهم بعثيون او عفلقيون او ملاحدة....).

 

وهنا اود ان استرجع التأريخ مرة اخرى. القومية العربية وصلت للسلطة بانقلابات دموية في فترة الاربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي. ان الموديل القومي للاتحاد السوفييتي (والذي كان ممثل البرجوازية القومية الروسية) كان بمثابة مرجع او منارة علمانية للقوى القومية العربية التي سمت نفسها تحررية ووطنية.

 

ولكن يجب ان ننتبه. فاصل الميل القومي العربي لم يأتي من الحركة التحررية والانسانية والعمالية او الاشتراكية في اوربا في اواخر القرن 19 بل نتيجة التركيبة الاديولوجية لهذا الميل استنبطت كل قيمها (وكان هذا سهلا بالطبع) من التنظيم العشائري والقوانين العشائرية.

 

ان من يظن ان صدام حسين خان حزب البعث بجلبه لعشيرته واولاد عمومته وعينهم في مناصب امنية حساسة وقريبة منه كان نوعا من الالتفاف على حزب البعث واهم او يحاول ان يبيض تأريخ القومية العربية في العراق. ان حزب البعث نفسه تركيبته عشائرية. لا تناقض مطلقا بين القومية والعشائرية. وكدليل على ما اقول اذكر هنا حادثة اذهلتني في وقتها ولكن سرعان ما فهتمها لاحقا. فعندما تمرد حسين كامل على سلطة صدام حسين عام 1995 ثم اغري بالرجوع من خلال ”عفو الرئيس عنه“ لم يتم محاكمته بتهمة الخيانة للدولة او النظام السياسي القومي تمت تصفيته بانتقام عشائري شارك فيه كل ابناء عشيرة صدام حسين.

 

ان الدولة المدنية والعلمانية هناك قوانين يخرجها المجتمع من خلال صيرورة معينة. حين تخرق هذه القوانين يتم تفعيل قانون للعقوبات المدنية. اما عندما يحكم القوميون فان القانون يمكن ان يخرس (وفي 99% من الحالات) ليكون قانون العشيرة هو السائد. وفي كردستان العراق اليوم ومنذ ان استلم القوميون الكرد السلطة فان كل حالات الاجرام وقتل النساء تتم تحت قوانين عشائرية. اما ما مكتوب فيما يسمى الدستور فهو ”ورق تواليت“.

 

ان الادعاء بان البعثيين او القوميين العرب او الكرد هم علمانيين لمجرد انهم لبسوا البدلات المدنية (وللحق يقال لا يمكن ان يعرفوا انفسهم دون بدلات حربية لانهم مولعين بالغزوات...) هو ادعاء بائس.

العراق طوال 35 سنة من حكم البعث لم يحكم على اساس كونه بلدا بل على اساس كونه عشيرة والسلطة هي سلطة عشيرة اسمها العراق. عندما تهرب من العراق يلحقونك ليقتلوك في الخارج. لا يجري هذا في اي دولة علمانية. فعدا عن ان المعارض لا يطرد من بلده او يواجه التعذيب والحرق بالتيزاب بل يعيش ربما في حالة صعبة كما في الدول العلمانية، فان المعارض تحت سلطة القوميين يتهم فورا بانه "خائن" لانه نقد حكومته او النظام. ان الخيانة.

 

هذه الانماط البربرية لسلطة البرجوازية متعلقة اساسا بتطور الرأسمالية في العراق حيث كانت الفاشية بنظري شرط من شروط رأٍس المال. ان النازية بالمانيا والفاشية في ايطاليا والستالينية في روسيا امثلة على الاشكال الاكثر قمعية للقومية والتي تستمد (اصالة العرب—اصالة الالمان—اصالة الايطاليين—الاصالة الروسية وهكذا وهلمجرا).

 

ان غياب الدولة المدنية سببه غياب العلمانية؛ غياب الوعي العلماني والذي يقف مفهوم المواطنة والمساواة في قلبه.

 

ورغم حكم حركة الاسلام السياسي للعراق بالتفجيرات والسواطير والجبب السوداء والخضراء وتحجيب النساء والاستعراضات العسكرية الفاشية والمراسيم الدينية المرعبة لفرض الخوف على المجتمع، فان القانون العشائري هو الاكثر تطبيقا في العراق لحد اليوم.

 

هذا لا يمنح اي صكوك لحركة الاسلام السياسي ومثال بربريتها وانعدام اي انسانية لها واضح وهو ما نناضل لكنسه في العراق ولكن فقط تحت ظل حكم الاسلام السياسي يمكن للعشائرية ان تزدهر وتنمو كما يجري اليوم في العراق. لان ذلك يخدم نفس حركة الاسلام السياسي في العراق والمنطقة.

ان المرأة في العراق تقتل حين تقيم علاقة عاطفية او حتى مجرد الشك وفق منطق "شرف العشيرة" او قانون ما يسمى "غسل العار". حتى داخل التيارات الاسلامية فان المرأة تقتل او يشوه وجهها بالتيزاب بداعي "غسل العار" لانه الاكثر مقبولية ويلقى الرضا والقبول من رؤساء العشائر.

 

ان التيار القومي اذن سواء كان معتدل او فاشي متطرف هو تيار لا علماني لان جذره لا يمتد الى المجتمع المدني بل في عمق التنظيم العشائري والتركيبة العشائرية .

 

حكم 35 سنة في العراق شاهد على انعدام التمدن والانسانية ومساواة المرأة رغم نضال التيارات الانسانية في العراق بالضد من ذلك.

 

 

التتمة في العدد القادم